يعاني حوالي 1.5 مليار شخص تقريبًا من مرض الكبد المزمن (Chronic liver disease) على مستوى العالم، وذلك وفق دراسة نُشِرت عام 2020 ميلادي في مجلة طب الجهاز الهضمي السريري وأمراض الكبد (Clinical Gastroenterology and Hepatology)،[1] وتُعبّر أمراض الكبد المزمنة عن مجموعة الأمراض التي تتطور جرّاء تعرّض الكبد لضررٍ متكرر ومتواصل قد يُسفر عن حدوث تليف الكبد، والذي يصِل في الحالات المتقدمة إلى مرحلة تشمع الكبد (Cirrhosis).[2]
يكثر انتشار تليف الكبد بين سكان المناطق الحضرية وفق ما توصلت إليه العديد من الدراسات، ومع ذلك، لم تتوفّر بيانات كافية حول مقدار انتشاره بين سكان الأرياف، لهذا السبب أُجريت دراسة على سكان قرية زراعية تقع جنوب الهند، نُشرت نتائجها في مجلة ذا لانسيت (The Lancet) في العام 2022 ميلادي، إذ تقترح هذه الدراسة أنّ انتشار تليف الكبد بين سكان الأرياف ونظرائهم من سكان المناطق الحضرية متساويًا، ولكن يجب إجراء المزيد من الأبحاث والدراسات في المستقبل لمعرفة تأثير بعض العوامل على معدل انتشار الإصابة بتليف الكبد بين سكان المناطق الريفية.[3]
ما هو تليف الكبد؟
تليف الكبد (Liver fibrosis) هو تكوّن الأنسجة الندبية في الكبد كمحاولة منه لإصلاح نفسه عند التعرُّض لضرٍر معيّن، كالذي يحدث بسبب العدوى الفيروسية، أو إدمان الكحول، أو غيره، فتحِل هذه الندب محل الخلايا الطبيعية للكبد، وتعجز عن أداء وظائفها، كما أنّها تؤثر في التروية الدموية لخلايا الكبد الطبيعية.[4][5]
يُعد تليف الكبد واحدًا من المشكلات الصحية الخطِرة التي قد تتفاقم مع الوقت، وتصل إلى مرحلة تشمع الكبد (Liver cirrhosis) أو سرطان الخلايا الكبدية (Hepatocellular carcinoma) في حالة عدم خضوع المصاب للعلاج الملائم مبكرًا، ويُشار إلى أنّ تليف الكبد يعد سببًا رئيسيًّا مسؤولًا عن حدوث المشاكل الصحية والوفاة عالميًا.[5][6]
أعراض تليف الكبد
يواجه الأطباء صعوبةً في تشخيص تليف الكبد في مراحله المبكرة أو الطفيفة والمتوسطة، وقد يعود ذلك إلى عدم ظهور أي أعراض على المصاب في المراحل الأولى من حدوث تليف الكبد، إذ يُعرف بأنّ تليف الكبد بحد ذاته لا يكون سببًا في ظهور أيّ أعراض على المصاب، وتؤكّد ذلك نتائج دراسة نشرتها مجلة ذا لانسيت لأمراض الكبد والجهاز الهضمي (The Lancet Gastroenterology & Hepatology) عام 2016 ميلادي، فقد أشارت هذه الدراسة إلى أنّ حوالي 6-7 % من الأشخاص البالغين لديهم تليفًا في الكبد رغم عدم معرفتهم بذلك، وعدم تشخيص إصابتهم بمرضٍ في الكبد، ويعاني معظم هؤلاء الأشخاص من مرض الكبد الدهني غير الكحولي (Non-alcoholic fatty liver disease) أو (NAFLD)، وهذا يعني ضرورة تطوير برامج فحص منظمة للكشف عن حالة تليف الكبد لدى عامة السكان.[7]
قد يعاني المصاب من أعراض مختلفة تظهر مع تقدّم المرض وتفاقم الضرر في الكبد، والإصابة بتشمع الكبد،[8] وتختلف هذه الأعراض والعلامات من شخصٍ لآخر باختلاف طبيعة المضاعفات التي يعانيها:[8]
- خسارة الوزن.
- فقدان الشهية للأكل.
- الخمول والتعب.
- الارتباك.
- اصفرار لون الجلد وبياض العينين، أو ما يُعرف باليرقان (Jaundice).
- تجمّع السوائل في منطقة البطن.
- ظهور الدوالي المريئيّة (Esophageal varices).
- تغير مستوى قوة التركيز والذاكرة، والقدرات الذهنية أو الفكرية.
درجات تليف الكبد
يتمكن الطبيب من تحديد درجة تليف الكبد وِفق "أنظمة التدريج النسيجي" (The histological staging systems)، التي اعتمدت دراسة التشريح المجهري للخلايا والأنسجة بعد أخذ خزعة من أنسجة الكبد، وقد عمدت بعض من هذه الأنظمة إلى تقسيم درجات تليف الكبد إلى 5 درجات، مثل نظام (Scheuer)، ونظام (METAVIR)، ونظام (Batts-Ludwig)، والبعض الآخر قسمه إلى 7 درجات أو مستويات، مثل نظام (Ishak et al)، ويتوافق تشمع الكبد مع أعلى درجة في جميع "أنظمة التدريج النسيجي".[9]
يُعدّ نظام (METAVIR) من الأنظمة البسيطة والمقبولة للاستخدام في الممارسة السريرية، وهو متاح على نطاقٍ واسع،[9] إذ يتضمّن تصنيف تليف الكبد لسلسلة من الدرجات أو المراحل:
- الدرجة 0 : تشير إلى عدم وجود تليف في الكبد.[9]
- الدرجة 1 : ظهور "تليّف بابي" (Portal fibrosis) بدون حواجز ليفيّة، والتليف البابي هو حدوث التليف في الوريد البابي أو فروعه، وهو الوريد الذي ينقل الدم من الأمعاء والطحال إلى الكبد.[9][10]
- الدرجة 2 : ظهور بعض الحواجز الليفية، وهي أشرطة مكونة من الكولاجين، وتفصل نسيج الكبد إلى عقيدات متفاوتة الحجم.[9][11]
- الدرجة 3 : تظهر العديد من الحواجز الليفية، ولكن لم يظهر التشمع في الكبد.[9]
- الدرجة 4 : حدوث تشمع الكبد.[9]
أسباب تليف الكبد
يحدث تليف الكبد كاستجابة غير طبيعية لضررٍ أو إصابة مزمنة يتعرض لها الكبد، إذ تُسبب هذه الاستجابة تراكم مكونات النسيج خارج الخلية (Extracellular matrix) في الكبد، وتكوين "التندب الليفي" أو "الندبة الليفية" (Fibrous scar)، ومع تطور المرض، ينجم عن وجود الندبة الليفية اختلال بنية وتركيب الكبد، واضطراب وظائفه، والذي قد يصل في نهاية المطاف إلى مرحلة الإصابة بقصور الكبد.[4][12]
يُذكر بأنّ علاج السبب الذي أدى إلى حدوث تليف الكبد قد يُسهم في تعافي الكبد، وعكس عملية حدوث التليف لدى بعض المرضى، طالما أنّه لم يصل إلى مرحلة التشمع،[4] لكن يبقى السبب مجهولًا لدى حوالي 15% من الحالات،[8] من أسباب تليف الكبد:[4][8]
- التهاب الكبد الفيروسي (Viral hepatitis)، مثل التهاب الكبد الفيروسي ج (Hepatitis C)، والتهاب الكبد ب (Hepatitis B).
- شرب الكحوليات، يُذكر بأنّ غالبية المصابين باضطراب تعاطي الكحول الشديد يعانون من مرض الكبد المزمن.
- مرض الكبد الدهني غير الكحولي (NAFLD)، ويكون مصحوبًا بما يُعرف بمتلازمة الأيض (Metabolic syndrome)، أي يعاني المصاب في هذه الحالة من السمنة، ومرض السكري، و فرط مستوى الدهون في الدم (Hyperlipidemia)، وقد يتطور مرض الكبد الدهني غير الكحولي لدى البعض مسبّبًا التهاب الكبد الدهني غير الكحولي (Non-alcoholic steatohepatitis or NASH) وظهور التليفات في الكبد.
- التهاب الكبد المناعي الذاتي (Autoimmune hepatitis)، وهو من الأمراض النادرة التي تؤثّر في الإناث بنسبة أعلى، ويصاحبها تدمير أنسجة الكبد بواسطة الأجسام المضادة الذاتية (Autoantibodies)، التي تهاجم أنسجة الكبد الطبيعية بالخطأ، وفي معظم حالات التهاب الكبد المناعي الذاتي يصل الأمر إلى مرحلة ظهور تشمع الكبد.
- التهاب الأقنية الصفراوية المصلب الابتدائي (Primary Sclerosing Cholangitis)، الذي يصاحبه نقصان حجم القنوات الصفراوية الواقعة خارج الكبد وداخله، بسبب الالتهاب والتليف.
- بعض الأمراض الوراثية، مثل مرض ترسُّب الأصبغة الدموية (Hemochromatosis) المُسبب لارتفاع مستوى الحديد في الجسم، ومرض ويلسون المسبب لتراكم عنصر النحاس فيه.
- تناول بعض الأدوية، مثل أميودارون (Amiodarone)، وفينيتوين (Phenytoin)، وميثوتريكسيت (Methotrexate)، ونيتروفيورانتوين (Nitrofurantoin)، وغيرها.
علاج تليف الكبد
يوجّه الطبيب تركيزه على علاج السبب أو العامل الذي أدى إلى حدوث تليف الكبد، لوقف تطور التليف في الكبد، أو محاولة عكسه وعودة الكبد إلى حالته الطبيعية أحيانًا،[13] ومن الخيارات المُتبعة في علاج تليف الكبد:[8][13]
- استخدام الأدوية المضادة للفيروسات في حالات الإصابة بالتهاب الكبد الناجم عن عدوى فيروسية مزمنة.
- إعطاء أدوية تساعد على التخلص من تراكم النحاس في الجسم جرّاء الإصابة بمرض ويلسون (Wilson's disease)، ومن هذه الأدوية ما يُعرف بـ "مستخلبات النحاس" (Copper chelators).
- استخدام أدوية تساعد على التخلص من تراكم الحديد في الجسم بسبب الإصابة بمرض ترسُّب الأصبغة الدموية الوراثي، مثل مستخلبات الحديد (Iron-chelators)، وقد يلجأ الطبيب في بعض الأحيان إلى إجراء بضع الوريد (Phlebotomy) -سحب كمية من الدم من الوريد-.
- أدوية الكورتيزون أو الكورتيكوستيرويدات (Corticosteroids)، أو أيّة أنواع أُخرى من الأدوية المثبطة للمناعة، والتي تُعطى في حالات التهاب الكبد بالمناعة الذاتية.
- حل مشكلة الانسداد في القناة الصفراوية بالطرق العلاجية المناسبة.
- تخفيف الوزن، وضبط مستويات السكر والدهنيات في الدم، إذ يسهم اتباع هذه السلوكيات في السيطرة على مرض الكبد الدهني غير الكحولي.
- وقف استخدام أي نوع من الأدوية أو المكملات التي قد تتسبب في حدوث تليف الكبد.
- الامتناع عن تناول المشروبات الكحولية في حالة الإصابة بأمراض الكبد الناجمة عن شرب الكحول.
تؤثر بعض المركبات والأدوية في تليف في الكبد، وتساعد على عودة خلايا الكبد إلى طبيعتها، واستعادة قدرتها على أداء وظيفتها، ويُقصد بها عكس تليف الكبد وتقليل مستويات "السيتوكينات الالتهابية" (Inflammatory cytokines) الالتهاب، و"السيتوكينات المُحفزة لنمو الخلايا الليفية" (Fibrogenic cytokines)، وزيادة نشاط الكولاجيناز (Collagenase)، وإزالة "الخلايا الليفية العضلية" (Myofibroblasts) و"الندبات الليفية" (Fibrous scars)،[9][12] ومع ذلك، لا تتوفر حتى هذه اللحظة أدوية توقف تكوين النسيج الندبي (التليف) في الكبد بكفاءة، ويكون استخدامها آمنًا في الوقت ذاته، وهذا يفسر خضوع أنواع مختلفة من الأدوية التي قد تسهم في تقليل تليف الكبد للدراسة والبحث المتواصل.[13]
ما زال تطوير أدوية مخصصة لعلاج تليف الكبد في بداياته، خاصةً وأنّ معظم الأدوية التي قد تُستخدم لعلاج التليف ما زالت في مرحلة التجربة والاختبار،[14] وتُشكل العديد من العوامل تحديًا أمام العلماء في رحلة البحث والتطوير:[14]
- يُعدّ تليف الكبد من العمليات المعقدة التي يصعُب مطابقة نتائجها مع النماذج الحيوانية المخبرية أثناء البحث، إذ تتأثر بالعديد من العوامل المختلفة.
- يؤدي استخدام نوع واحد من الأدوية إلى ظهور أعراض جانبية واضحة بسبب جرعاته العالية، واستهدافه مسار واحد فقط في عملية حدوث التليف، وتأثير عوامل وأسباب أُخرى.
- يُعرف بأنّ هذه الأدوية باهظة الثمن.
توصّل الباحثون خلال الدراسات السريرية إلى إمكانية تحقيق نتائج إيجابية واضحة عند استخدام أكثر من دواء لعلاج تليف الكبد في آنٍ واحد، سواءً بزيادة الكفاءة العلاجية للأدوية، أو القدرة على تخفيف آثارها الجانبية وسميتها في الجسم، وقد ينير ذلك شعلة الأمل في مستقبل البحث والتطوير الدوائي.[14]
الوقاية من مضاعفات مرض الكبد المزمن
يُوصَى بمعرفة مجموعة من النصائح التي قد تسهم في وقف تطور مرض الكبد المزمن ومنع حدوث مضاعفاته:[8][15]
- الامتناع عن تناول المشروبات الكحولية.
- الحرص على تناول الغذاء الصحي والمتوازن، والإكثار من تناول الخضراوات والفواكه والحبوب الكاملة، والحدّ من تناول الأطعمة الغنية بالسكريات والأملاح.
- تلقّي لقاح ضد فيروس التهاب الكبد ب، وفيروس التهاب الكبد أ، ولقاح ضد الإنفلونزا، ومرض المكورات الرئوية (Pneumococcal disease)، والمطاعيم التي يوصي الطبيب باستخدامها لمنع حدوث المضاعفات.
- تجنب استخدام الأدوية التي قد تُلحق الضرر بالكبد، واستشارة الطبيب دائمًا قبل استخدام أي دواء.
- الاكتفاء باستخدام مكملات الحديد عند وجود نقص في حديد الدم، وعدم استخدامها عشوائيًّا دون الرجوع إلى الطبيب أولًا.
- تجنب استخدام أي فيتامينات أو مكملات غذائية أو أعشاب قبل استشارة الطبيب أولًا.
- الخضوع لفحوصات وتحاليل تكشف عن الإصابة بالتهاب الكبد نوع ب، أو التهاب الكبد من النوع ج.
- اتباع التوصيات الصحية التي تسهم في إبقاء مستوى دهنيات الدم ضمن معدلاتها الطبيعية، وذلك لتقليل خطورة الإصابة بمتلازمة الأيض و مرض الكبد الدهني غير الكحولي (NAFLD).