لطالما ارتبط الصداع الذي يصيب ما يزيد على 3 مليار شخص حول العالم بمرض الصرع، وذلك بسبب خصائصهما السريرية المشتركة، إذ يُعد الصرع والصداع النصفي (الشقيقة) تحديدًا من أشهر الأمراض العصبية المرتبطة بوجود العامل الوراثي كأحد المسببات الرئيسية لهما، كما تُشير العديد من الدراسات الاستقصائية إلى أنّ الأشخاص الذين يعانون من الصرع أكثر عُرضةً للإصابة بالصداع -خصوصًا الشقيقة- وبدرجة تفوق الأشخاص غير المصابين بالصرع، وتجدر الإشارة إلى أنّ الصداع قد يحدث قبل نوبة الصرع، أو خلالها، أو بعدها.[1][2]
تذكر بعض الدراسات أنّ المُسبب الرئيسي وراء الإصابة بالشقيقة لدى مرضى الصرع يعود إلى أنّ كليهما يتضمنان حدوث ما يُعرف بالخمود القشري المنتشر (Cortical spreading depression) في قشرة الدماغ بالتحديد، الذي يتمثل بانتشار مستمر لموجة عصبية قوية في قشرة الدماغ مُسببًا تحفيز عصبي شديد وزيادة تدفق الدم إلى أنسجة الدماغ، يليها تثبيط لنشاط تلك الموجات العصبية وانخفاض ملحوظ في تدفق الدم، كما تذكر المراجع بأنّ زيادة النشاط الخلوي في منطقة القشرة الدماغية (Neocortex) هو ما يسبب الإصابة بالصداع والصرع معًا.[3][4]
أعراض الصرع وكيفية تشخيصه
يعاني ما يقارب 50 مليون شخص حول العالم من مرض الصرع، مما يجعله أشهر مرض يصيب الجهاز العصبي، كما يرافقه عادةً معاناة المريض من مشكلات صحية تؤثر كثيرًا في جودة حياته، أبرزها الصداع بنسبة إصابة تبلغ 24% تقريبًا.[4]
تُصنّف نوبة الصرع إلى نوعين تبعًا لمساحة المنطقة المصابة من الدماغ، فإمّا أن تكون نوبة صرع مُعممة (Generalized seizures) تشمل الدماغ بأكمله مما يؤدي عادةً إلى فقدان الوعي، وإمّا أن تكون نوبة صرع جزئية (Partial seizures) تصيب جزءًا منه فقط، وفقًا لذلك تتنوع الأعراض تبعًا لمنطقة الدماغ المتأثرة، وتجدر الإشارة إلى أنّ الأعراض المصاحبة لنوبة الصرع تختلف كثيرًا من شخصٍ لآخر، فإمّا أن تكون نوبة صرعية يفقد فيها المصاب وعيه لحظيًا، أو قد تتمثل بتشنج عنيف لسائر الجسم مع فقدان المصاب لوعيه، أو قد يصيب ذلك التشنج أحد أطراف الجسم فقط.[5][6]
يمكن تشخيص الإصابة بالصرع عند تعرض المريض لنوبتين على الأقل بفاصل زمني لا يقل عن 24 ساعة مع غياب وجود عامل خارجي قد يحفّز الإصابة بها،[6] كما يجب الخضوع لعدّة إجراءات تشخيصية لتوكيد الصرع، مثل تخطيط كهربية الدماغ ((EEG) Electroencephalogram) الذي يُعدّ الوسيلة الأفضل للتشخيص بسبب قدرته على كشف نشاط الدماغ غير الاعتيادي، بالإضافة إلى إجراء التصوير بالرنين المغناطيسي ((MRI) Magnetic resonance imaging)، كما يمكن أن يطلب الاختصاصي صورًا مقطعية ((CT) Computed tomography) اعتيادية أو بالإصدار البوزتريني ((PET) Positron emission tomography)، أو التصوير المقطعي المحوسب بانبعاث الفوتون ((SPECT) Single photon emission computed tomography) عند الحاجة إلى علاج النوبات جراحيًا.[5][7]
أمّا تشخيص الصداع المرافق للصرع، فيجب أن يشمل استخدام جهاز تخطيط كهربية الدماغ (EEG) لرصد شحنات الصرع التي ترافق بداية ونهاية الصداع،[8] يُذكر بأنّ الباحث باريسي (Parisi) وضع معايير محددة تفيد -من وجهة نظره- في تشخيص الصداع المرافق للصرع، والتي تستوجب توافرها لدى المريض وتشمل استمرار الصداع لدقائق، أو ساعات، أو أيام، ورصد نوبات الصرع بالتزامن مع الصداع باستخدام جهاز تخطيط الدماغ (EEG)، بالإضافة إلى أن يؤثر الصداع في جهة واحدة من الرأس وأن يختفي مباشرةً خلال دقائق معدودة بعد الحصول على دواء مضاد للصرع عبر الوريد، لكن تبيّن عدم صحة بعض هذه المعايير، فقد يؤثر الصداع في الجهة اليمنى واليسرى من الرأس في ذات الوقت، كما أنّ عدم استجابته لأدوية الصرع الوريدية مباشرة لا ينفي ارتباطه بمرض الصرع.[8][9]
أنواع الصداع المصاحب للصرع
قد يصيب الصداع مريض الصرع في الفترات الزمنية التي تفصل بين نوبات الصرع ذاتها، أي قد يحدث قبل 24 ساعة من نوبة الصرع أو بعد 72 ساعة من حدوثها، ويُسمى طبيًا بالصداع بين النوبات (Interictal headaches)، أيضًا قد يحدث هذا النوع من الصداع بالتزامن مع نوبات الصرع بسبب وجود مشكلة صحية يعانيها المريض أدت إلى الإصابة بكلا المشكلتين، مثل الأورام الدماغية، أو الالتهابات، أو الإصابات المباشرة في الرأس، أو الاستسقاء، وغيرها،[2][10] ومن الأنواع الأخرى للصداع المرافق للصرع:
- الصداع النصفي الصرعي (Hemicrania epileptica)، أو ما يُعرف بالصداع الذي يصيب المرضى خلال نوبة الصرع (Ictal epileptic headache)، وينجم عن زيادة تدفق الدماء إلى الأعصاب في القشرة الدماغية قبل أو خلال نوبة الصرع، كما تنخفض شدته مباشرة بعد انتهاء النوبة أو قد يتبعه نوبة صرعية جديدة.[1][2]
- الصداع بعد نوبة الصرع (Postictal headache)، وهو من الأنواع الأكثر شيوعًا بنسبة تصل إلى 60%، ويوصف بأنه أشبه بنوبة الصداع النصفي، ويمكن تعريفه على أنه صداع ينجم بعد مرور أقل من ثلاث ساعات على الإصابة بنوبة الصرع ويختفي من تلقاء ذاته بعد أقل من 72 ساعة منها، كما يشيع بين المصابين بالصرع المصاحب للنوبات التشنجية أكثر من الصرع غير المصاحب للتشنجات،[1][2] وعادةً ما يصاحبه التقيؤ والحساسية من الضوء، وتجدر الإشارة إلى وجود بعض عوامل الخطر التي تزيد من احتمالية الإصابة بهذا النوع من الصداع، مثل وجود تاريخ مرضي سابق للإصابة بالصداع خصوصًا النصفي، بالإضافة إلى المعاناة من الصرع لفترة طويلة، أو مقاومة الصرع للعلاجات الدوائية، وغيرها.[10]
- الصداع قبل نوبة الصرع (Pre-ictal headaches)، وهو الصداع الذي يحدث قبل أقل من 24 ساعة من حدوث نوبة الصرع ويستمر حتى لحظة بدء النوبة.[2]
علاج الصداع لمرضى الصرع
يشمل علاج الصرع تناول الأدوية المضادة لنوبات الصرع (مضادات التشنجات أو الاختلاج) والتي يمكن اختيارها وفقًا لنوع الصرع والأمراض المرافقة له، مثل دواء كاربامازبيين (Carbamazepine)، وأوكسكاربازبين (Oxcarbazepine)، وفالبوريت الصوديوم (Sodium valproate)، وليفيتريسيتام (Levetiracetam)، وغيرها، كما يمكن اللجوء للخيار الجراحي للمرضى الذين يعانون من مشكلات صحية أخرى سببت الصرع لهم، مثل الأورام أو النزيف الدماغي، أو إذا فشلت الأدوية في السيطرة على النوبات بعد مرور سنة على الأقل من استخدامها.[5][11]
أمّا المرضى الذين يعانون من الصداع المرافق للنوبات التشنجية فيلجأ أطباء الدماغ والأعصاب إلى اختيار علاج دوائي يستهدف الحالتين معًا، إذ ذكرت بعض الدراسات السريرية فعالية استخدام بعض الأدوية المضادة للصرع التي وافقت إدراة الغذاء والدواء الأمريكية على استخدامها للوقاية من الصداع النصفي، مثل فالبوريت بجرعة 500 ملغ، أو توبيراميت (Topiramate) بجرعة 100 ملغ، إضافة إلى دواء جابابنتين (Gabapentin) بجرعة 1200 ملغ، لكنه غير مصرّح باستخدامه من إدراة الغذاء والدواء الأمريكية (Off-label)، وتجدر الإشارة إلى ضرورة تجنب استعمال الأدوية التي تُستخدم عادةً للوقاية من الصداع، مثل مضادات الاكتئاب ثلاثية الحلقات أو الأدوية المضادة للذهان، وذلك بسبب ثبوت تسببها في زيادة حساسية المصاب لمحفزات نوبات الصرع، وبالتالي زيادة احتمالية إصابته بالنوبات.[10]
يكمن دور جهاز تخطيط كهربية الدماغ EEG في المرحلة العلاجية برصد لحظة حدوث الصداع لتحديد ما إذا كان حصوله مرتبطًا بالصرع، خصوصًا لحالات الصداع التي لا تستجيب للعلاجات المتعارف عليها، لذا يمكن الاكتفاء بتناول المسكنات في حالات الصداع المتوسط أو الشديد التي تسبق أو تتبع النوبة التشنجية.[2]
ما الفرق بين الصداع النصفي والصرع؟
على الرغم من التشابه الكبير بين الصداع النصفي والصرع (القذالي Occipital تحديدًا) في الأعراض البصرية التي ترافق كل منهما وتظهر في بداية النوبة (نوبة الصداع ونوبة الصرع) أو ما تسمى بالهالة (Aura)، إلّا أنّ الفرق الأساسي بينهما يكمن في طول مدة الأعراض البصرية المصاحبة لكل منهما، إذ لا تتجاوز بضع ثواني أو دقائق في حالات بالصرع بينما تستمر بمتوسط 30 دقيقة في حالة الصداع النصفي، كما أنّ الأعراض البصرية تبدأ فجأة في حالة الإصابة بالصرع يرافقها أعراض صرعية أخرى، بينما تكون تدريجية في الصداع النصفي مع ظهور أعراض أخرى حسية وجسدية.[12]
هل يمكن أن يسبب الصداع الصرع؟
قد يتسبب الصداع النصفي بمضاعفات أهمها تحفيز الإصابة بنوبة صرع (Migraine aura-triggered seizure) أو ما يُعرف بالشقيقة الصرعية (Migralepsy)، وهو مصطلح اُستخدم لأول مرة للإشارة إلى الصداع النصفي الذي يؤثر في الرؤية ويسبب الغثيان والتقيؤ، ثم يتبعه ظهور أعراض الصرع المتعارف عليها.[1][10]
هل يمكن الوقاية من الصداع المرافق للصرع؟
تتوافر خيارات دوائية حديثة قد تفيد في الوقاية من الصداع النصفي الذي يرافق نوبات الصرع، ومن أهمها الأدوية المضادة للصرع التي بمقدورها تثبيط ببتيد الكالسيتونين المُحفز للشقيقة ((CGRP) Calcitonin gene-related peptide)، إذ يوجد هذا الببتيد في الأنسجة العصبية وينتشر بتحفيز العصب ثلاثي التوائم الوعائي (Trigeminovascular system) المسؤول عن الشعور بالألم لدى الإصابة بالصداع النصفي، من الأمثلة على الأدوية المضادة للتشنجات/الصرع التي قد تقي من الصداع النصفي لمرضى الصرع دواء بيرامبينيل (Perampanel)، يُذكر بأنّ الخمود القشري المنتشر الذي يحدث خلال نوبة الصرع هو أبرز مسببات تحفيز العصب الثلاثي.[2][13][14]
أيضًا، أشارت بعض الدراسات إلى أنّ استخدام الأدوية المضادة للتشنجات بغرض الوقاية من الشقيقة، مثل أدوية توبيراميت وفالبوريت لفترات طويلة وبجرعات يومية، بمقدورها كبح الخمود القشري المنتشر بنسبة تتراوح بين 40% -80%.[14]