لا يُعد اضطراب النَهم العصبي (Bulimia Nervosa) مرضًا حديث المنشأ، ولكن لم يُبدِ له الاختصاصيون اهتمامًا إلّا منذ بداية ثمانينيات القرن الماضي، إذ استحدث الاختصاصي النفسي جيرالد راسل مصطلح اضطراب النهم العصبي عام 1979م، ما أدّى إلى تمييزه عن مرض فقدان الشهيّة العصبي (Anorexia)، ومنذ ذلك الوقت لُوحظ ازدياد عدد الحالات المُشخّصة بالمرض، وأصبح هذا الاضطراب محط انتباه الأطباء والمُجتمع.[1]
ما هو اضطراب النَهم العصبي؟
اضطراب النَهم العصبي هو اضطرابٌ نفسيّ خطير،[2] تتمثّل أعراضه بنوباتٍ مُتكررة من الإفراط بالأكل، أي تناول كميات كبيرة من الطعام مع فقدان السيطرة على ذلك، يتبعها بعض السُلوكيات التعويضية كالاستفراغ المُتعمَد، أو تناول بعض الأدوية كالمُلينات (Laxatives)، أو مُدرات البول، أو الامتناع عن تناول الطعام لفتراتٍ طويلة، أو ممارسة الرياضة بإفراط، وذلك لمنع حدوث زيادة الوزن المُتوقعة وللمُحافظة على صورة مُعينة لمظهرهم الخارجي.[3]
وتَنص النُسخة الخامسة من الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية (DSM-5) الصادر عن الجمعية الأمريكية للأطباء النفسيين، أن نوبات الأكل المُفرطة والسُلوكيات التعويضية التي تتبعها يجب أن تحدث على الأقل مرة واحدة في الأسبوع على مدار ثلاثة أشهر لتشخيص المريض باضطراب النهم العصبي.[3]
أسباب اضطراب النهم العَصبي وعوامل الخطر
يُعد اضطراب النهم العصبي أكثر شُيوعًا بما يُقارب 10 مرات لدى الإناث منها عن الذكور، ويؤثر في ما تصل نسبته حتى 3% من النساء الشابات، وتظهر أعراضه في الفترة العُمريّة بين 13-20 عامًا،[4] تُشير دراسة علمية نُشرت في المجلة الأسترالية- النيوزلندية للطب النفسي إلى أنّ انخفاض تقدير الذات من العوامل الرئيسية للإصابة باضطراب النهم العصبي بالإضافة لعوامل أُخرى، كالإصابة بالسُمنة في الطفولة أو مرحلة المراهقة، والرغبة في تحقيق ما يبدو أنّه صورة مثالية للمرأة من خلال ما تنشره وتعرضه وسائل الإعلام.[5]
بالإضافة لذلك فإنّ العامل الوراثيّ يلعب دورًا في نشوء المرض، وقد يرتبط اضطراب النهم العصبي في كثيرٍ من الأحيان ببعض الاضطرابات النفسية، كالإدمان[4]، أو مع الاصابة باضطرابات وصدماتٍ نفسية، أو مشاكل عاطفيّة، أو جنسيّة خلال الطفولة.[6]
البرنامج العلاجي لمرضى اضطراب النهم العصبي
طُوّرَت برامج علاجية فعّاله لاضطراب النهم العصبي، إذ كلما بدأ العلاج في مرحلة مُبكرة كانت فُرص الشفاء أكبر، وكما أُشيرَ سابقًا إلى أن النهم العصبي اضطرابٌ نفسيٌ، لذا لا بُد أن يُجري الطبيب النفسي المُختص تقييمًا شاملًا لحاله المريض لتحديد أفضل الخطط العلاجية التي تساعد في شفائه،[4] ويهدف التقييم لمعرفة:[4]
- السمات العامة لشخصية المريض، وتصوراته تجاه شكل جسمه ووزنه.
- تاريخ وزن المريض، ونمط غذائه اليومي، ومحاولاته لخسارة الوزن للوصول للوزن المثالي.
- علاقات المريض الاجتماعية مع الأسرة أو أقرانه، والمشاكل التي قد عانى منها في الماضي، كالانتهاكات الجسدية أو النفسية أو العاطفية.
- تقييم الأمراض المرافقة الطبية والنفسية، وتوثيق المحاولات السابقة للعلاج.
من أهم البرامج العلاجية المُتبعة لعلاج اضطراب النهم العصبي:
العلاج الدوائي
يهدف العلاج الدوائي إلى تقليل حالات تناول الطعام بإفراط، وتخفيض عدد مرات الاستفراغ المُتعمَد،[4] من أهم الأدوية المُستخدمة لعلاج النهم العصبي:[4][7]
- مثبطات استرداد السيروتونين الانتقائية (Selective Serotonin Reuptake Inhibitors)، كعقار الفلوكسيتين (Fluoxetine)، إذ تُشير الدراسات والأبحاث السريرية فعالية الدواء بتقليل نوبات الأكل المُفرط والتقيؤ المُتعمد.
- مُضادات الاكتئاب ثلاثية الحلقات (Tricyclic Antidepressant)، ومن أمثلتها عقار أميتريبتيلين (Amitriptyline) إذ إنها تُقلل من تناول الطعام بنهم بنسبة تتراوح ما بين 47-91 بالمئة، وتُقلل التقيؤ المُتعمد بنسبة 45-78 بالمئة.
- مُثبطات الأوكسيداز أحادي الأمين (Monoamine Oxidase Inhibitors)، مثل دواء فينيلزين (Phenelzine) الذي يُقلل من تناول الأكل بإفراط، ولكنه لا يُستخدم كخيارٍ أول بسبب أعراضه الجانبية المُزعجة.
العلاج النفسي
تُظهر البرامج العلاجية النفسية نتائج واعدة في علاج اضطراب النهم العصبيّ، ومن أهم هذه البرامج العلاج السلوكي المَعرفي، وغيرها من البرامج العلاجية.[8]
العلاج السلوكي المعرفي
يُمثّل العلاج السلوكي المعرفي (Cognitive Behaviour Therapy) حجر الأساس في برامج علاج اضطراب النهم العصبيّ ويُعدّ خيارًا مُناسبًا للإناث والذكور على حدٍ سواء،[9] ويهدف البرنامج لاستعادة السيطرة على تناول الطعام، وتجنُب السلوكيات التعويضية التي تتبع فرط الأكل، وعادةً ما يُسجل المرضى تفاصيل تناولهم للطعام ومشاعرهم، ثم مناقشتها مع الاختصاصي الذي يُعِدُّ خطةً لوجباتهم اليومية، ويُعلمهم أساليب مُعينة لتحدي الأفكار والمشاعر التي تنتابهم، وتُعزز ثقتهم بذواتهم.[4]
يُصمم المُعالج المُختص برنامجًا علاجيًا يتناسب مع كل مريضٍ على حدة،[9] إذ يتضمّن العلاج السلوكي المعرفي عقد 19 جلسة لمدة 20 أسبوعًا تُقسّم لثلاثة مراحل علاجية:[10]
- المرحلة الأولى:
تهدف المرحلة الأُولى من العلاج إلى تثقيف المريض حول طبيعة المرض، ومساعدته في تنظيم أوقات تناول الطعام، ومقاومة الرغبة المُلحة للأكل بشراهة، أو مُحاولة التقيؤ بطريقة مُتعمدة.
- المرحلة الثانية:
تزداد الخيارات المُتاحة في النظام الغذائي خلال هذه المرحلة، كما تُستخدم بعض الإجراءات الإدراكية المُدعّمة بالتجارب السلوكية لتعديل المفاهيم المغلوطة لدى المريض وتصحيح مُعتقداته الغذائية.
- المرحلة الثالثة:
وهي مرحلة الاستمرارية، إذ تُستخدم استراتيجيات خاصّة للوقاية من الانتكاسات المُستقبلية.
العلاج السلوكي الجدلي
يرتكز العلاج السلوكي الجدلي (Dialectical Behavior Therapy) على حقيقة أنّ الاضطرابات العاطفية هي أساس اضطراب النهم العصبي، إذ يلجأ المريض للأكل المُفرط والتقيؤ المُتعمد لتفريغ المشاعر المؤلمة، وفي هذا البرنامج العلاجي يتعلم المرضى مجموعةً من المهارات لاستبدال هذه السلوكيات غير الصحيّة.[10]
العلاج بالتعرُّض
يُواجه المريض خلال العلاج بالتعرُّض (Exposure therapy) المشكلة، من خلال السماح له بتناول الطعام، وبعدها يتّبع المُعالج استراتيجيات نفسية مُعينة لمنع السلوكيات التعويضية التي تهدف إلى الحفاظ على الوزن بعد تناول الطعام، كالتقيؤ، وتستمر هذه المُحاولات حتى تتلاشى الرغبة القوية للاستفراغ.[10]
العلاج المُرتكز على العائلة
يُعدّ العلاج المُرتكز على العائلة (Family-Based Treatment) من البرامج العلاجية الفعالة لاضطراب النهم العصبي عند المُراهقين، إذ يتولّى الوالدان مسؤولية تعليم سلوكيات الأكل الطبيعية لابنهم المُراهق، ويتضمن العلاج 20 جلسة علاجية على مدار 6 أشهر مع اختصاصيين نفسيين، وينقسم العلاج إلى 3 مراحل:[11]
- المرحلة الأولى:
تهدف المرحلة الأُولى لإعادة تأهيل سلوكيات الأكل الصحي لدى المريض والإشراف عليه في فترة ما بعد الوجبة لمنع حدوث السلوكيات التعويضية، ولضمان نجاح المرحلة الأُولى على الوالدين وأفراد العائلة العمل كفريقٍ واحد، ويكون دور الأشقّاء دعم المريض دون انتقاد، كما تُخصّص إحدى الجلسات في المرحلة الأُولى لوجبة عائلية برفقة المُعالج المُختص بهدف تمكين الوالدين من ترسيخ عادات الأكل الصحي للمريض.
- المرحلة الثانية:
تبدأ المرحلة الثانية عند التأكد من أنّ سلوكيات الأكل للمريض أصبحت طبيعية، وخلال هذه المرحلة يستطيع المريض استعادة السيطرة تدريجيًا على خيارات الأكل بإشراف الوالدين.
- المرحلة الثالثة:
تبدأ المرحلة الثالثة عندما يمكن للمراهق تناول الطعام بدون إشراف الوالدين، كما يمكن معالجة بعض المشكلات غير المتعلقة بالطعام وإنهاء علاج المريض في هذه المرحلة.
مضاعفات اضطراب النهم العصبي
ترتبط مضاعفات اضطراب النهم العصبي بالسلوكيات التعويضية الناجمة عن تناول كمياتٍ كبيرة من الطعام،[2] وتتضمّن هذه المضاعفات:[6][2]
- مضاعفات تظهر على الجلد
ظهور علامة راسل (Russell Sign) من مضاعفات النهم العصبي، وسُمّيت بذلك تيمنًا بمكتشف المرض جيرالد راسيل، وهي نُدب تظهر على ظهر اليدين بسبب احتكاك اليد بالأسنان أثناء محاولة التقيؤ، وتُعد علامة راسل غير شائعة الحدوث، إذ يمكن للعديد من هؤلاء المرضى التقيؤ تلقائيًا دون استخدام اليد أو ادخال أدوات في الفم لإخراج الطعام.
- مضاعفات تُصيب الجهاز الهضمي
يُسبّب التقيؤ المستمر بعض أمراض الجهاز الهضمي كمرض الارتداد المريئي المَعوي (GERD)، أو عُسر البلع (Dysphagia)، أو سوء الهضم (Dyspepsia) ويمكن علاج ذلك بالتوقف عن التقيؤ الذاتي واستخدام أدوية مُثبطات مضخات البروتون (Proton Pump Inhibitors) بعد استشارة الطبيب.
- مضاعفات تؤثر في الأسنان والفم.
يُسبب التقيؤ المُتكرر تآكلًا في طبقة العاج ومينا الأسنان نتيجة تعرُّضها المُستمر لأحماض المعدة، كما يُسبب أيضًا التهابًا في الأغشية المُخاطية للفم والتهابًا في الشفّة، وللتقليل من هذه المُضاعفات يُنصَح بتنظيف الأسنان بلطف واستخدام الغسولات الفموية التي تحتوي على الفلورايد.
- الرعاف ونزف تحت مُلتحمة العين
يزيد التخلص من الطعام عن طريق القيء من خطر رعاف الأنف والنزيف في منطقة تحت مُلتحمة العين، وذلك نتيجة التهوّع أو ما يُعرف بالإرجاع الجاف.
- تضخم الغدد النُكافية
يظهر تضخم الغدد النُكافية أو التهاب الغدد اللُعابية (Sialadenosis) بعد 3-4 أيام من التوقف عن التقيؤ الذاتي المُفرِط، ويُسبّب ازعاجًا للمريض المُصاب بالنهم لأنه يؤثر في مظهره الخارجي، كما قد يترافق مع الألم الطفيف لدى لمس المنطقة، وللعلاج يمكن استخدام الكمادات الدافئة على المنطقة المُصابة واستشارة الطبيب لاستخدام بعض العلاجات الدوائية كمُضادات الالتهاب.
- اضطرابات الكهارل
تُعدّ اضطرابات الكهارل (Electrolyte Disturbances) من المضاعفات الخطيرة التي قد تؤدي للوفاة، وتحدث نتيجة التقيؤ المتعَمَد المُزمن أو الاستخدام المُفرط لمُدرات البول، ومن أهم اضطرابات الكهارل التي تُشكّل تهديدًا لحياة المريض نقص البوتاسيوم في الدم (Hypokalemia) والحماض الاستقلابي (Metabolic Acidosis) اللذان يُسببان اضطرابات في ضربات القلب.
توقعات سير المرض
عادةً ما تكون نتائج علاج المراهقين الذين يعانون من اضطرابات النهم العصبي أفضل من نتائج علاج البالغين، فقد أظهرت مراجعة لـ 27 دراسة علمية تتعلق بالشفاء والتعافي من النهم العصبي أنّ ما يُقارب 45% من المرضى حققوا الشفاء الكامل، و27% حققوا تحسنًا في الأعراض، و23% عانوا من مضاعفاتٍ مزمنة، وترتفع فرص التحسن لدى المرضى الأصغر عمرًا، وإذا كانت مدة الأعراض قصيرة لديهم، وعلاقتهم بوالديهم جيدة.[12]