في الخمسين عامًا الماضية، انتقل اضطراب طيف التوحد للأضواء، وتغيّر مفهومه من مرضٍ نادرٍ يُصيب الأطفال إلى اضطراب مُزمن معروف ومنتشرٍ إلى حدٍ ما، وينجُم مرض التوحد عن تغيرات أثناء تطور الدماغ في مرحلة الطفولة المُبكرة، وتتراوح أعراضه ما بين الطفيفة والمتوسطة إلى الشديدة، ويحتاج العديد من الأفراد المصابين به للدعم والمُساعدة مدى الحياة.[1]
ما هو مرض التوحد؟
مرض التوحد أو كما يُعرف علميًا باضطراب طيف التوحد (Autism Spectrum Disorder) هو اضطراب يشمل مجموعةً من الأعراض، كصعوبة التواصل والتفاعل الاجتماعي مع الآخرين، والأنماط المُكررّة من بعض الأفعال، والروتين المُحدّد، ويبلغ مُعدل انتشار التوحد على مستوى العالم ما يقارب 1%، كما تُشير الدراسات الحديثة لنسبٍ أعلى في الدول المُتقدمة.[2]
يُشخَّص التوحد في السنوات الأُولى من عُمر الشخص، ويتضمّن العلاج كُلًا من العلاج السلوكي، والتربوي، والعلاج الدوائي، وبالرغم من توفر العديد من البرامج العلاجية، فإنّ طيف التوحد لا يمكن علاجه نهائيًا، لكن التشخيص والعلاج المبكِّر يساعدان على تحسُّن حالة المريض بنسبة أعلى في جميع الجوانب، إذ تهدف خطة العلاج إلى تحسين جودة حياة المصابين، وتعزيز استقلاليتهم.[3]
أعراض مرض التوحد
تشمل أعراض اضطراب طيف التوحد:
مشاكل في التفاعل الاجتماعي
تتضمّن الأعراض المرافقة لمشاكل التفاعل الاجتماعي:[4]
- صعوبة التواصل غير اللفظي كضعف التواصل البصري، وقلة تعبيرات الوجه.
- صعوبة تطوير المريض لعلاقات اجتماعية مع أقرانه.
- عدم التعبير عن المشاعر، وعدم إبداء الاهتمام بمشاعر الآخرين.
- صعوبة تفسير ردة فعل الآخرين أو تفسير تعبيرات وجوههم.
مشاكل في مهارات التواصل
من الأمثلة على مشاكل مهارات التواصل لدى مرضى التوحد:[4]
- تأخُر في اكتساب اللغة أو عدم اكتسابها، ويمكن ملاحظة ذلك من خلال عدم تطور لغة الطفل، وإصدار الأصوات بدلًا من الكلام، أو عدم القدرة على التحدُّث بجُمَلٍ واضحة.
- عدم قدرة الطفل على بدء مُحادثة أو إتمامها.
- استخدام لغة أو كلمات غير مفهومة، وقد تكون فريدة من نوعها.
- عدم مقدرة الطفل على مُجاراة ألعاب التقليد أو التخيُّل.
أنماط محدودة ومتكررة من السلوك، والاهتمامات، والأنشطة
تظهر هذه الأنماط على الطفل المُصاب من خلال:[5]
- تكرار حركات نمطية كرفرفة اليد، أو النقر بالأصابع، أو القفز.
- التمسك الشديد بنظامٍ ما أو طقوسٍ معينة.
- الانشغال بجزءٍ مُحدّد من الأشياء دون الاهتمام به ككل.
- التمسّك والانشغال بواحد أو أكثر من الاهتمامات غير العادية دون غيرها.
أسباب مرض التوحد
لا يوجد سبب محدد ومعروف للإصابة بالتوحد، إذ إنّ الإصابة به تعتمد على عوامل عدّة،[6] لكن توجد فرضيات عديدة وأبحاث متنوعة تتناول عوامل تساهم في الإصابة باضطراب طيف التوحد:
عوامل وراثيّة
يُعد طيف التوحد من الاضطرابات الوراثية المُعقّدة، إذ تشمل العديد من الجينات وتُظهر تبايُنًا كبيرًا بالأعراض المُرافقة له، إذ تزداد احتمالية ولادة طفل مُصاب بالتوحد في حال وجود أخ أكبر منه مُصاب بهذا الاضطراب، وذلك بحوالي 5-6%، كما تزداد الاحتمالية أكثر في حال وجود أكثر من أخ واحد، وفي الحقيقة قد يرتبط اضطراب التوحد بإصابة الطفل ببعض الأمراض الوراثية، كمتلازمة الصبغيّ إكس الهش (Fragile X syndrome)، ومتلازمة التصلب الحدبيّ (Tuberous sclerosis)، ومتلازمة ريت (Rett Syndrome).[6]
عوامل بيئيّة
قد تؤثر العوامل البيئية التي تحدث أثناء مرحلة تطور الجنين في الرحم في الجينات المسؤولة عن ظهور المرض عند الأطفال، وتُغيّر من أعراضه وسماته،[6] وتتضمن هذه العوامل البيئية:[7]
- تناول الأم أثناء فترة الحمل لبعض الأدوية، كحمض الفالبوريك (Valproic Acid).
- إصابة الأم بعدوى فيروسية أو بكتيرية أثناء الحمل.
- إصابة الأم ببعض الأمراض، كارتفاع ضغط الدم أو زيادة الوزن أثناء الحمل.
- عمر كِلا الأبوين، إذ تزداد فرصة إنجاب أطفال يُعانون من التوحد إذا كان عُمر الأم 40 عامًا أو أكثر، وعُمر الأب 50 عامًا أو أكثر.
- الولادة المُبكرة للطفل (قبل الأسبوع 32 من الحمل).
- وزن الطفل عند الولادة (أقل من 1500 غرام).
- انخفاض وزن الطفل أو زيادته بالنسبة لعمر الحمل.
أشهر البرامج العلاجية لمرض التوحد
طُورِت العديد من البرامج العلاجية للأطفال الذين يُعانون من التوحد، وتشمل هذه البرامج التدخُلات السلوكية، والتدخُلات التنموية، والتدخلات الإدراكية السلوكية، وفي حين يستند كل برنامج على فلسلفة مُعينة ويستخدم استراتيجيات فريدة، إلّا أنّ هذه البرامج قد تتداخل بدرجة كبيرة فيما بينها،[8] من أشهر البرامج العلاجية لمرض التوحد:
برنامج ويلدين ما قبل المدرسة
يُعد برنامج ويلدين ما قبل المدرسة (Walden Toddler Program) برنامجًا تعليميًا صُمّم خصيصًا للأطفال بين عمر 15-36 شهرًا الذين يُعانون من اضطراب طيف التوحد، إذ يستند البرنامج على نموذج رعاية يُومية سواءً في البيت أو في دور رعاية الأطفال ضمن أنشطة مُحدّده، ويتركز حول استخدام التدريس العَرَضي والاندماج الاجتماعي مع الأطفال الآخرين، والتدريس العَرَضي (Incidental teaching) هو أحد طرق العلاج السلوكي التطبيقي (ABA)التي تستخدم المبادئ السلوكية لتعليم الأطفال ضمن ظروفٍ طبيعيّة، وذلك من خلال ألعاب وأنشطة تجذب اهتمام الطفل، مع زيادة الأنشطة والطلبات من الطفل مع الوقت، وقد أظهر الأطفال المصابين بالتوحد الخاضعين لهذا البرنامج تحسُنًا ملحوظًا في المهارات اللغوية والاجتماعية.[9]
برنامج النهج الاتصالي الاجتماعي
طوَّر مختصون بمرض التوحد برنامج النهج الاتصالي الاجتماعي (Social pragmatic communication approach) الذي يستهدف الأطفال دون الثلاث سنوات، ويُركّز على النواحي العملية والاجتماعية لديهم، ويهدف هذا البرنامج إلى تطوير مهارات التواصل الاجتماعي والعملي للأطفال باستخدام أسلوبٍ مُبسط بدلًا من الأسلوب الارشادي، وذلك ضمن البيئة الطبيعية للطفل من خلال توفير فرصٍ للتواصل مع الآخرين، وتشجيع أيّ محاولات من الطفل المُصاب للتواصل، وخلق بيئة مُتوقَعَة للطفل، وتعليم الأطفال غير المصابين بالتوحد طريقة التعامل مع الأطفال المُصابين والتفاعل معهم.[8]
برنامج تيتش للتوحد
يُعرّف برنامج تيتش (TEACCH Program) على أنّه نهج يدعم قدرة الفرد المُصاب بالتوحد على التعلُم وفهم وتطبيق ذلك في الحياة اليومية، ويستهدف البرنامج المهارات الأساسية في أنشطة الحياة اليومية، والتواصل، واللغة، وتعزيز الحياة الاجتماعية، وزيادة الانتباه، والمُشاركة مع الآخرين.[10]
يُصمَّم البرنامج من قبل المُختصين بناءً على حالة المريض، إذ يُقيَّم المريض فرديًا، ومن ثمَ يُوضع برنامج خاص لكل حالة.[10]
يتضمّن برنامج تيتش ترتيب الأنشطة اليوميّة، وتنظيم البيئة المُحيطة بالمريض بطريقة تضمن أفضل النتائج وتُقلّل من الأعراض لديه، كالشعور بالإحباط أو التوتر، وذلك من خلال:[10]
- تنظيم البيئة المُحيطة بالطفل بطريقة تُلبّي احتياجاته وتُقلل من العوامل التي تُشتّت انتباهه.
- ترتيب الأنشطة اليومية بطريقة مُتوقعة للطفل، كاستخدام جدول يحتوي على صور للمهام التي يجب أن يُؤدّيها.
- تعزيز استقلالية الطفل بتسهيل ترتيب المواد من حوله، أو استخدام الوسائل البصرية لمساعدته على أداء مهامه.
برامج تحليل السلوك التطبيقي
برامج تحليل السلوك التطبيقي (Applied Behavior Analysis) هي أنظمة علاجية تستند على الأدلة والبحوث العلميّة، وتهدف إلى تحسين القدرات العقلية للأطفال الذين يُعانون من التوحد، وتعزيز اللغة لديهم، وتدريبهم على حل المشاكل، وتطوير قدراتهم على التكيُّف مع البيئة المُحيطة.[11]
تعتمد هذه البرامج على مراقبة وتحليل سلوك الأطفال المُصابين بالتوحد، وتعزيز السلوكيات الإيجابية التي يؤدّيها الأطفال وتشجيعها، وتقليل السلوكيات الخاطئة واستبدالها بالمهارات المناسبة في التحدُّث، والتواصل، واللعب، والإدراك، والدراسة، والتطور الحركي، ومهارات الحياة اليومية.[11]
تُطبَّق برامج تحليل السلوك التطبيقي لمدة 25 ساعة أسبوعيًا على الأقل، من قبل مُختصّين حاصلين على شهادة مُعتمدة دوليًا.[11]
برنامج ليب لعلاج التوحد
يهدف برنامج ليب (Learning Experiences Alternative Program-LEAP) إلى دمج الأطفال الذين يُعانون من التوحد مع أقرانهم السليمين ضمن الفئة العمرية 3-5 سنوات، ويمتاز البرنامج بتكلفة منخفضة نسبيًا إذا ما قُورن بالبرامج الأُخرى، وتُظهِر نتائج البرنامج تحسُنًا ملحوظًا في المهارات اللغوية، والاجتماعية، والسلوكية، بالإضافة إلى تقليل الأعراض التي يُعاني منها الطفل.[12]
برنامج جرينسبان
يعتمد نموذج جرينسبان (The Greenspan model)، والذي يُعرَف أيضًا بتقنية وقت الجلوس الإيجابي (Floor time Therapy)، على تطوير أواصر العلاقة بين الطفل المُصاب بالتوحد وذويه، وتُطبَق من خلال جلسات تستغرق 20-30 دقيقة، وبمعدل 6-10 جلسات يوميًا، يتفاعل خلالها الآباء ويلعبون مع أطفالهم على الأرض، بهدف تعزيز القدرات الاجتماعية التواصليّة للطفل،[13] وتهدف تقنية وقت الجلوس الإيجابي إلى تطوير الروابط الاجتماعية مع الآخرين، الأمر الذي يساعد على تحسين المهارات الإدراكية والتنموية، بما في ذلك الانتباه، والتركيز، والانخراط والتواصل مع الآخرين، وزيادة القدرة على التعبير غير اللفظي، والتعبير عن العواطف، وحل المشكلات المُعقدة، والتفكير المجرد والمنطقي.[8]
برنامج دينفر للتدخل المُبكر
يُعدّ برنامج دينفر للتدخل المُبكر (The Early Start Denver Model) برنامجًا شاملًا يستهدف الأطفال الرُضع المصابين بالتوحد حتى سن ما قبل المدرسة، ويدمج برنامج دينفر بين برنامج تحليل السلوك التطبيقي (Applied Behavior Analysis) والتقنيات التنموية التي تستند على بناء علاقات قوية مع الآخرين، ويُطبق البرنامج اختصاصيين مؤهّلين بمساعدة العائلة في المنزل لمدة ساعتين، بمعدل مرتين يوميًا، وتُكرَّر 5 أيام في الأسبوع،[14] تتضمّن خطة العلاج وفق برنامج دينفر:[15]
- زيادة انتباه الطفل وتحفيزه.
- أداء أنشطة اجتماعية مُتكررة تتضمّن استخدام الحواس والمشاعر.
- تعزيز المشاركة الثنائية وأنماط النشاط المشترك.
- تطوير مهارات التقليد.
- تعزيز التواصل غير اللفظي.
- استخدام تقنيات التشجيع والتشكيل (أي تعزيز السلوكيات الجيدة وتشجيعها) والتلاشي (التخفيف التدريجي للسلوكيات السيئة)، التي تهدف لتعزيز السلوكيات الإيجابيّة.
- تقييم سلوك الطفل باستمرار لتطوير خطة العلاج.
أشارت أحد الدراسات المنشورة في مجلة (Pediatrics) عام 2016 ميلادي إلى فعالية نموذج دينفر، إذ لوحظ ارتفاع نتائج اختبار الذكاء لدى الأطفال الذين خضعوا للبرنامج، بالإضافة لاكتسابهم مفردات لُغوية جديدة، وتحسين قدرتهم على التكيُّف مع المُجتمع.[14]
العلاج الدوائي لاضطراب التوحد
بالرغم من عدم توافر دواء مُتاح لعلاج مرض التوحد، فقد يلجأ الأطباء لبعض العلاجات الدوائية للتقليل من الأعراض المُرافقة للمرض في حال عدم نجاح البرامج العلاجية السلوكية، ويستهدف العلاج الدوائي اضطرابات القلق، أو اضطرابات النوم، أو فرط الحركة وتشتت الانتباه.[5]
وقد أجازت مؤسسة الغذاء والدواء الأمريكية استخدام دواء الأريبيبرازول (Aripiprazole) ودواء ريسبيريدون (Risperidone) للتقليل من حدة الطِباع، ونوبات الغضب، وحمايتهم من إيذاء أنفسهم.[5]